القمع العابر للحدود.. الأمم المتحدة تحذر من انتهاك صامت يتجاوز الجغرافيا والقوانين
القمع العابر للحدود.. الأمم المتحدة تحذر من انتهاك صامت يتجاوز الجغرافيا والقوانين
حذّرت الأمم المتحدة في تقريرها الأخير من تزايد ظاهرة القمع العابر للحدود التي تستهدف المدافعين عن حقوق الإنسان حول العالم، لافتة إلى أن هذا النمط من الانتهاكات يتجاوز الحدود الوطنية، حيث تمارس بعض الحكومات ضغوطاً واعتداءات على ناشطين يعيشون خارج بلدانهم، بهدف إسكاتهم أو تقييد نشاطهم الحقوقي، وتؤكد المفوضية السامية لحقوق الإنسان أن هذا الاتجاه يشكل تهديداً مباشراً لأسس العدالة الدولية وللحق في حرية التعبير والتنظيم.
محاور المواجهة الأممية
حدد التقرير الأممي أربعة محاور رئيسية للتعامل مع ظاهرة قمع وانتهاك حقوق المدافعين عن حقوق الإنسان: رفع الوعي والتدريب، توفير الحماية الشاملة للأشخاص المعرضين للخطر، تعزيز آليات المحاسبة والوسائل القانونية، وأخيراً تعزيز الأمن الرقمي والتدابير التكنولوجية، وهذه التوصيات، وفق مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، تمثل إطاراً استرشادياً لكنه بحاجة إلى ترجمة فعلية في السياسات الوطنية والدولية.
انتقادات المجتمع المدني
رحّبت منظمات مثل "الخدمة الدولية لحقوق الإنسان" بإدراج موضوع القمع العابر للحدود في التقرير، لكنها انتقدت ما وصفته بغياب المتابعة الجادة من جانب الأمين العام للأمم المتحدة في قضايا عالقة، وأشارت إلى أن تجاهل حالات موثقة يعزز مناخ الإفلات من العقاب ويضعف مصداقية الجهود الأممية، ومن أبرز الأمثلة التي أوردتها: استمرار منع الناشط الجيبوتي كادار عبدي إبراهيم من السفر منذ 2018، ومنع الخبيرة الأممية أنيسا ألفرد كانينغهام من العودة إلى نيكاراغوا.
أرقام ودلالات
التقرير الأممي أشار إلى أن ثلاثين دولة متهمة بتنفيذ أعمال انتقامية ضد مدافعين عن حقوق الإنسان، من بينها ثلث أعضاء مجلس حقوق الإنسان نفسه، ما يثير تساؤلات خطيرة حول التزام الدول بالمعايير الدولية التي وقعت عليها، ووفقاً لمؤشرات حقوقية حديثة، فإن نسبة الاعتداءات التي تتخذ طابعاً عابراً للحدود ارتفعت بما يقارب 40 في المئة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وتشمل أنماطاً مثل حظر السفر، المراقبة الرقمية، التهديدات ضد العائلات، وصولاً إلى الاعتقال التعسفي أو النفي القسري.
ردود الفعل الدولية
المنظمات الدولية كالعفو الدولية وهيومن رايتس ووتش شددت على أن هذه الظاهرة تتناقض مع القانون الدولي لحقوق الإنسان، الذي يضمن حرية التعبير وحق الأفراد في التواصل مع المؤسسات الأممية دون خوف من الانتقام، كما دعت إلى إنشاء آلية دولية مستقلة لرصد وتتبع القمع العابر للحدود، على غرار الآليات المعمول بها في قضايا الاختفاء القسري أو التعذيب، من جانبها، أكدت بعثات دولية في مجلس حقوق الإنسان أن الاستهداف العابر للحدود يقوض الثقة بالنظام الأممي ويقود إلى شرعنة ممارسات استبدادية تحت غطاء السيادة الوطنية.
جذور الظاهرة وأسبابها
يرى خبراء أن جذور القمع العابر للحدود تعود إلى تزايد النزاعات الداخلية في عدد من الدول، وارتفاع منسوب الاستبداد السياسي، واعتماد أنظمة سلطوية على الرقابة العابرة للقارات بفضل التطور التكنولوجي، وفي ظل سهولة مراقبة المعارضين في الخارج، تستخدم بعض الحكومات أدوات رقمية متقدمة لتعقب الناشطين، كما تسعى إلى تكميم أفواههم من خلال الضغط على عائلاتهم في الداخل، وتشير تقارير إلى أن هذه الظاهرة مرتبطة بشكل وثيق بأنماط التخويف والانتقام المتصاعدة منذ بداية العقد الماضي، خصوصاً في مناطق تشهد توترات سياسية حادة.
انعكاسات إنسانية
تداعيات هذه الممارسات تتجاوز الناشطين المستهدفين لتطول نسيج مجتمعاتهم، فالقمع العابر للحدود يولد شعوراً عميقاً بالخوف والتهديد الدائم، ويقيد قدرة المدافعين عن حقوق الإنسان على مواصلة عملهم، كما يبعث برسالة سلبية للمجتمع المدني العالمي بأن الحماية الدولية ليست مضمونة، هذا بدوره يؤدي إلى تراجع مساحة المشاركة السياسية، ويعمق أزمات الثقة بين الأفراد والمؤسسات الأممية.
المسؤولية القانونية الدولية
القانون الدولي يفرض التزامات واضحة على الدول بحماية المدافعين عن حقوق الإنسان وضمان وصولهم إلى آليات العدالة الدولية. المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تكفل حرية التعبير، فيما يفرض العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التزاماً على الدول بعدم مضايقة أو الانتقام من الأفراد لممارستهم هذا الحق، كما أن إعلان الأمم المتحدة الخاص بالمدافعين عن حقوق الإنسان لعام 1998 شدد على واجب الدول في حماية هؤلاء الأفراد، ومع ذلك فإن غياب آليات إنفاذ صارمة يجعل هذه النصوص أقرب إلى مبادئ أخلاقية غير ملزمة.
مقترحات وحلول
من بين التوصيات التي طرحتها منظمات المجتمع المدني: إنشاء سجل دولي للحالات الموثقة من القمع العابر للحدود، وإشراك الخبراء المستقلين في تقييم ردود الحكومات، وفرض عقوبات محددة على الدول المتورطة، كما طُرحت مقترحات لتوسيع صلاحيات مجلس حقوق الإنسان ليشمل مراجعة دورية خاصة بمدى التزام الدول بحماية المدافعين عن حقوق الإنسان، وليس فقط تقييم سياساتها العامة.
تعود ظاهرة الانتقام من المدافعين عن حقوق الإنسان إلى عقود سابقة، حيث واجه ناشطون في أمريكا اللاتينية وإفريقيا حملات استهداف بسبب تعاونهم مع الأمم المتحدة في توثيق الانتهاكات، لكن الجديد اليوم هو الطابع العابر للحدود لهذه الممارسات، الذي تعزز بفعل العولمة والرقمنة، ففي السنوات الأخيرة، وثقت الأمم المتحدة أكثر من 700 حالة انتقامية مرتبطة بتعاون أفراد أو منظمات مع هيئاتها، ما يشير إلى خطورة الظاهرة واستمرارها بوتيرة متصاعدة.
تؤكد الأمم المتحدة أن التصدي لظاهرة القمع العابر للحدود لم يعد خياراً بل ضرورة لحماية أسس النظام الدولي القائم على احترام حقوق الإنسان، فالمسألة لا تتعلق فقط بحرية أفراد بل بمصداقية المنظومة الأممية ككل، وإذا استمرت حالات الانتقام بلا محاسبة فإن ذلك يهدد بترسيخ منطق الإفلات من العقاب، ويجعل المدافعين عن الحقوق الإنسانية أكثر عزلة وهشاشة في مواجهة سلطات تتجاوز حدودها.